فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (18):

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}
قلت: {وازرة}: صفة لمحذوف، أي: نفس آثمة. و{إن تدع}: شرط، و{لا يُحمل}: جواب، و{لا} النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أُخرى} أي: ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى، والوزر والوِقر أخوان، ووزَر الشيء: حمله. والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار، والقريبَ بالقريب، فذلك ظلم محض. وأما قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ففي الضالّين المضلّين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله: {اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12].
قال ابن عطية: مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زياد ونحوه، فإن ذلك، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة، أو مواصلة، أو اطلاع على حاله، أو تقرير له، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى: {وليحملن أثقالهم...} الآية؛ لأنهم أغروهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سنَّ سُنَّة حسنة..» الحديث، فراجعه. قلت: لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن، فالصواب حسم هذا الباب، والتصريح بتحريمه؛ لكثرة جوز الحُكام.
ثم قال تعالى: {وإِن تَدْعُ} نفس {مثقلةً} بالذنب أحداً {إِلى حِمْلِها} أي: إلى حمل ثِقل ذنوبها، ليتحمل عنها بعض ذلك، {لا يُحْمَل منه شيءٌ ولو كان} المدعو، المفهوم من قوله: {وإِن تدع}، {ذا قُربى} ذا قرابة قريبة، كأب، وولد، وأخ. والفرق بين معنى قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وبين قوله: {إِن تدع مثقلة إلى حِمْلها لا يُحمل منه شيء} أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه، وهذا غاية الإنذار.
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله: {إِنما تُنذِرُ الذين يخشون ربهم} أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه {بالغيب} أي: يخشون ربهم غائبين عنه، أو: يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو: يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية. {وأقاموا الصلاةَ} أتقنوها في مواقيتها، {ومَن تزكَّى} أي: تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، {فإِنما يتزكَّى لنفسه} إذ نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة؛ لأنها من جملة التزكي.
{وإِلى الله المصيرُ} المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
الإشارة: وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه؛ أن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدّم عند قوله: {واتَّقُوا فِتْنَةً...} [الأنفال: 25] الآية. قال القشيري: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة؛ ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. اهـ. وقال في قوله تعالى: {إِنما تُنذر...} الخ: الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية: لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف طيرُ السماء على إلافها تقع. اهـ.

.تفسير الآيات (19- 24):

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما يستوي الأعمى والبصيرُ} أي: لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم. وقيل: هما مثلان للصنم والله تعالى. {ولا الظلماتُ} كالكفر والجهل، {ولا النورُ} كالإيمان والمعرفة، {ولا الظلُّ} كنعيم الجنان، {ولا الحَرورُ} كأليم النيران. والحَرور: الريح الحارّ كالسموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
{وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ} تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل: للعلماء والجهال. وزيادة {لا} في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر. {إِن الله يُسْمِعُ من يشاء} بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. {وما أنت بمُسْمِعٍ مَن في القبور} شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل، فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذارهم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية: الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح؛ فلا نقول: إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. اهـ.
ثم قال تعالى: {إِن أنت إِلا نذيرٌ} أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك.
{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي: محقاً، أو: محقين: أو: إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، {بشيراً} لمَن آمن {ونذيراً} لمَن كفر، {وإِن من أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ} أي: ما من أمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير؛ نبيّ، أو عالم، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر: أمة. والمراد هنا: أهل العصر. قال ابن عطية: معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ، ومعناه: نذيرٌ مباشر، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم، فإنما ذلك بالفرض، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. اهـ.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة: أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف؛ لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. اهـ.
وقال ابن مرزوق في شرح حديث هرَقْل: الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحليه بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً؛ لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعاً. اهـ.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه: آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم، فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. اهـ. وقال أيضاً: إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه: أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. اهـ.
والحاصل: أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة: وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات: المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برْد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون. قال القشيري: {وما يستوي الأعمى والبصير...} الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا. اهـ. وقوله تعالى: {وإِن من أُمةٍ إِلا خلا فيها نذير} النذير على قسمين: نذير من وبال الذنوب، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب: العذاب، ووبال العيوب: الحجاب، فمَن تطهَّر من الذنوب استوجب نعيم الجنان، ومَن تطهّر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام الله، والثاني عارف بالله الأول مقتصد، والثاني سابق، ولا يخلو الدهر منهما، حتى يأتي أمر الله، فالشريعة باقية قائمة بقيام العلماء، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله، أهل التربية النبوية، بالاصطلاح، والهمة، والحال. ومَن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن يُكذّبوك} أي: قومك {فقد كَذَّب الذين مِن قبلهم} رسلهم، حال كونهم قد {جاءتهم رُسُلُهم بالبينات} بالمعجزات الواضحة، {وبالزُّبر} وبالصحف {وبالكتاب المنير} أي: التوراة، والإنجيل، والزبور. ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضُها في جميعهم، وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزُبُر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد، والعطف لتغاير الوصفين، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزبر القلوب، وكونها كتباً منيرة؛ لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة. {ثم أخذتُ الذين كفروا} أي: ثم عاقبتُ الكفرة بأنواع العقاب، {فكيف كان نكير} إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلُّون بمَن سلف قبلهم، فقد قُتل بعضهم، وسُجن بعضهم، وأُجلي بعضهم، إلى غير ذلك؛ زيادة في مقامهم وترقية بأسرارهم. والله عليم حكيم.

.تفسير الآيات (27- 28):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ....}
قلت: {مختلفاً}: نعت {ثمرات}. و{مختلف ألوانه}: صفة لمحذوف، أي: صنف مختلف.
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به} بالماء {ثمراتٍ مختلفاً ألوانُها} أي: أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو: ألوانها: هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما. {ومن الجبال جُدَد} طُرق مختلفة اللون. جمع: جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة: الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر، أي: وطرق {بِيض وحُمْرٌ} كائنة من الجبال.
{وغرابيبُ سود} أي: ومنها غرابيب سود، أي: ومن الطرق سود غرابيب؛ جمع: غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه: الغراب. قال الهروي: هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب: شديد السواد. اهـ. وفي الصحاح: تقول هذا أَسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود؛ تجعل السود بدلاً من غرابيب؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم. اهـ. تقول: أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وسود غرابيب. وفائدته: أن يكون المؤكد مضمراً، والمظهر تفسيراً له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد. اهـ. ولابد من تقدير حذف مضاعف في قوله: {ومن الجبال جُدَد} أي: من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب؛ حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: {ثمرات مختلفاً ألوانها}.
{ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه} أي: ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. {كذلك} أي: كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري: تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال. اهـ.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأخرجنا به ثمرات، وهي العلوم والأذواق والوجدان، مختلف ألوانها، فمنها علوم الشرائع، وتحقيق مسائلها، ومنها علم العقائد، وتشييد أدلتها وبراهينها، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب، وهو علم الطريقة، ومنها علم الأسرار، وهي أسرار الذات والصفات، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طُرق بيض، وحمر، وسود، فالبيض: طرق الكشف والبيان، وحلاوة الذوق والوجدان، والحُمر: طُرق الدليل والبرهان؛ لأنها قد تظهر وتخفى، والسود الغرابيب: عقول الفلاسفة والطبائعيين، أهل الحدس والتخمين، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين، وشرعِ النبي الأمين.
أولئك هم الضالون المضلُّون.
ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم، ذكر أهله، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنما يخشى اللهَ} أي: يخافه {من عباده العلماءُ} لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أعلمكم بالله أشدكم له خشية» وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله».
وقال الربيع بن أنس: مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية: كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً. وفي الحِكَم: (خيرُ علم ما كانت الخشية معه). وقال في التنوير: اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة؛ فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى: {إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. اهـ.
وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحي السنية. اهـ.
وقال في لطائف المنن: شاهد العلم، الذي هو مطلب الله تعالى: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع، والادخار، والمباهاة، والاستكثار، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة، تُضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها. جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه. اهـ.
وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه: إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم. ولو عكس، بأن قال: إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى: أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز: بنصف {العلماء} ورفع {الله}.
والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم. والمعنى: إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يقول الله للعلماء يوم القيامة إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده: إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ؛ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي» قال المنذري: انظر إلى قوله: «علمي وحلمي» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص. وفي رواية: «لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم». وقال عليه الصلاة والسلام: «يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء».
{إِن الله عزيزٌ غفور} هو تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة؛ لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم؛ لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة: العلماء على قسمين: علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: في علماء أهل الرواية: مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. اهـ.
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية: أن الخوف من العقاب، والرهبة من العتاب، والخشية من الإبعاد. قال القشيري: والفرق بين الخشية والرهبة: أنَّ الرهبة: خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه، فيجري في تفرقته. والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها، فيبقى مع الله. فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة، والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. والخشية قضية العلم والهيبة. اهـ. ثم قال: العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ، وانبساط في غير وقت، بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى. اهـ.
قال الورتجبي: الخوف عموم، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي: العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية: وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجاً بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه». اهـ. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال: «العلم» قيل: أيُّ العلم؟ قال: «العلم بالله سبحانه» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه؟ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً».
ثم قال: عن جعفر الصادق: العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. اهـ. ومعنى كلامه: أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم: (العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك). وبالله التوفيق.